انتبه.. وراءك موظف سري!
عمال البحرين الإثنين ١٠ فبراير ٢٠١٤

انتبه.. وراءك موظف سري!

 انتبه.. وراءك موظف سري!
 
 لن ألجأ إلى المقدمات والتمهيد للموضوع، لأنه كان ممهداً لنفسه منذ أن أطلق في الرابع من هذا الشهر، وهو إعلان وزير شؤون المتابعة محمد إبراهيم المطوع عن قرب تدشين برنامج يتضمن توفير موظف سري للاطلاع على ما يجري بداخل الوزارات الخدمية تحديداً، وذلك خلال المؤتمر الصحافي الذي انعقد على خلفية اطلاع اللجنة التنسيقية للنظر في المخالفات والتجاوزات الواردة في تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية، برئاسة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي  الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، إلى ما توصلت إليه الإدارة العامة لمكافحة الفساد والأمن الاقتصادي والإلكتروني بوزارة الداخلية بتحويل خمس قضايا أخرى تتعلق بتقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية إلى النيابة العامة.
هذا الحراك الذي أشيد به في هذه المساحة من قبل (راجع مقال “تواصل ومقاصل” المنشور هنا في 16 يناير 2014)، كونه خطوة صحيحة أتت متأخرة، ولكنها أن تأتي اليوم خير من أن تأتي غداً، وأن تأتي أساساً خير من أن لا تأتي مطلقاً. بقي الحديث عن الجوانب الإجرائية التي يمكنها الحدّ من هذه الملاحظات التي تتضخم سنوياً في الجوانب التي يشك أن بها شبهة فساد مالي وإداري، والتي زادت العام الماضي (2013) عن سابقه إلى 25 قضية بعد أن كانت 20، وهذا بدل أن تتناقص ويستحي العابثون في المال العام ويحجمون.
إلا أن تعيين “موظفين سريين” أمر مثير للتساؤلات. وفي الوقت الذي ذهب البعض إلى تحميل هذا التوجه الذي أعلن عنه الوزير المطوع، ما يحتمل وما لا يحتمل من تفسيرات، تشير إلى أن “الموظف السري” قد يكون “المخبر السري”، أي “الجاسوس” على المؤسسة. والبعض الآخر ذهب إلى أبعد من هذا الظن أو التخمين، ولا يلام من تأخذه سوء الظنون في شأن “الموظف السري” الذي يمكن أن يكون في وزارته الخدمية، التي هي مدار “زرع” هؤلاء الموظفين من خلال ما تبيّن من التصريح.
التساؤلات السابقة يمكن أن تُجمل في بضعة أسئلة أخرى أكثر إجرائية: في أية دائرة سيكون “الموظف السري”؟ في المشتريات؟ في المالية؟ في الموجودات والمخازن؟ في مكتب التدقيق الداخلي للوزارة أو الهيئة؟ في شؤون الموظفين والموارد البشرية، لأن الأمر لا يتعلق بالفساد المالي وحده بل الفساد المالي والإداري، وهل سيكون موظفا واحدا على هذا الأساس؟ أم جملة موظفين في الهيئة الواحدة؟ صحيح أن للفساد كلفة عالية جداً، وانعكاساً قاتماً على سمعة البلاد في المحافل الدولية، والستر صعب من هذا البلاء لأن التقارير تنشر اليوم من كل الجهات المعنية بالشفافية ومكافحة الفساد وغيرها، ولكن أيضاً لمكافحة الفساد كلفة عالية، فهل سيجري توظيف موظفين متخصصين ليكونوا سريين مثلاً في الوزارات، أم سيكونون موظفين سريين إلى جانب عملهم الجهري اليومي؟ وما المعايير التي يمكن أن يُنتخب من خلالها الموظف السري الذي يجب أن يمارس عمله بازدواجية عالية، يصارع فيها انفصاماً كما يصارعه الجاسوس الذي يعمل لصالح بلاده في بلاد أخرى.
 
 فهذا العمل يمكن أن يكلف الجاسوس حياته إن انكشف أمره، فما الكلفة التي ستترتب على “المخبر السري” حين انكشاف أمره في مجتمع إن سقط فيه صحن في سترة سمعه الساكنون في الزلاق؟! فمن نبل المقصد، ووطنية الهدف، فإن وصم الموظف بأنه “يتجسس” وإن كان للصالح العام، يعد من الأمور المعيبة في حقه وحق من هم حوله. كما أن على “الموظف السري” أن يقاسي حمل هذه المسؤولية السرية في ليله ونهاره، ويتصرف كما يتصرف جواسيس الدول الذين ينامون مع أزواجهم وزوجاتهم الذين لا يعلمون عنهم إلا ظاهرهم. وكذا الموظف إن أريد له أن يكون سرياً، فعليه ألا يبوح بطبيعة عمله الآخر، أو “الوجه الآخر” لعمله حتى لأقرب المقربين إليه وإلا فلن يأمن انتشار الخبر تحت أي ظرف أو مبرر. إن حمل السر (ما دام الموظف سرياً) والحفاظ عليه، والتصرف بشكل حيادي في المؤسسة التي يعمل بها، وجمع المعلومات والأدلة والبراهين من واقع العمل، من دون أن يلفت النظر إليه، حتى يحتفظ بسريته، من الأمور التي تثقل كاهل المرء، وتجعله يئنّ ليل نهار.
 
هذا إذا افترضنا أن هذا “الموظف السري” منضبط ومتوازن تماماً، لا يميل مع الهوى، ولا يغلّب الجوانب العاطفية، لا يغضّ الطرف عن من يحب ومن ينتمي إليه، ولا ينتقم ممن لا تربطه بهم علائق تحول دونهم ودون توريطهم في أمور ليس لهم دخل فيها. وعلمتنا التجارب وجود هذه الأصناف من البشر الذين لا يرفُّ لهم جفن في التقوّل على الآخرين، أو إزاحة موظفين من طريقهم من أجل الترقي، بالتبليغ والوشاية وإيغار الصدور، والمراقبة والتوريط والكثير من الممارسات التي لا يمكن إلا مواجهتها بدهشة عالية إذ تصدر من زملاء يتشاركون “السمبوسة” في المكتب يومياً وعلى مدى عشر أو عشرين عاماً، ولكن – ولأسباب مختلفة ودوافع متعددة - يستعد البعض لأن يبيع هذه العشرة بالحق أو بالباطل، فإن كان البيع بالحق فهناك الكثير من المبررات الأخلاقية، ولكن ما أكثر الباطل!
هل يمكن إضافة ما قد تخلقه هذه الخطوة في أجواء العمل، من أن يحاذر الناس الحديث، أو التصرف الطبيعي، أو الالتفات يمنة ويسرة، لا يدرون من يكون “الموظف السري”، هل هو هذا الذي دخل مجدداً في القسم، أم تلك الزميلة القديمة قليلة الكلام؟ هل يكون المراسل (كما يحدث في أفلام الجاسوسية إذ يأتيك من وظائف لم تتوقعها) أم هو مراجع طارئ يختبر فعالية الإجراءات؟ إنه جو مسموم ينقل الجميع إلى الشك في الجميع، شبيه بشعور المرء بأن كاميرات مسلطة على رأسه حتى لا يمكنه أن يأتي بحركة عفوية قد تحسب عليه، وإن كانت الكاميرات آلات صمّاء، فكيف الحال بمن هم يتنفسون معك؟ لا أدري إن كانت هذه التجربة قد أخذ بها في بلد آخر، وبأية معايير، وكيف كانت النتائج، ولكنني أدري أنها خطوة هدفها سامٍ ولكن تبعاتها مزعجة.